فصل: تفسير الآيات (85- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (81):

{وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81)}
قوله تعالى: {وَآتَيْناهُمْ آياتِنا} أي بآياتنا كقوله: {آتِنا غَداءَنا} أي بغذائنا. والمراد الناقة، وكان فيها آيات جمة: خروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى تكفيهم جميعا. ويحتمل أنه كان لصالح آيات أخر سوى الناقة، كالبئر وغيره. {فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ} أي لم يعتبروا.

.تفسير الآيات (82- 84):

{وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)}
النحت في كلام العرب: البرى والنجر. نحته ينحته بالكسر نحتا أي براه. والنحاتة البراية. والمنحت ما ينحت به. وفى التنزيل {أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ} أي تنجرون وتصنعون. فكانوا يتخذون من الجبال بيوتا لأنفسهم بشدة قوتهم. {آمِنِينَ} أي من أن تسقط عليهم أو تخرب.
وقيل: آمنين من الموت.
وقيل: من العذاب. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} أي في وقت الصبح، وهو نصب على الحال. وقد تقدم ذكر الصيحة في هود والأعراف. {فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ} من الأموال والحصون في الجبال، ولا ما أعطوه من القوة.

.تفسير الآيات (85- 86):

{وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)}
{وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ} أي للزوال والفناء.
وقيل: أي لاجازي المحسن والمسيء، كما قال: {وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}. {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} أي لكائنة فيجزى كل بعمله. {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} مثل {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا} أي تجاوز عنهم يا محمد، وأعفو عفوا حسنا، ثم نسخ بالسيف. قال قتادة: نسخه قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}. وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فال لهم: «لقد جئتكم بالذبح وبعثت بالحصاد ولم أبعث بالزراعة»، قاله عكرمة ومجاهد.
وقيل: ليس بمنسوخ، وأنه أمر بالصفح في نفسه فيما بينه وبينهم. والصفح: الاعراض، عن الحسن وغيره. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ} أي المقدر للخلق والأخلاق. الْعَلِيمُ بأهل الوفاق والنفاق.

.تفسير الآية رقم (87):

{وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)}
اختلف العلماء في السبع المثاني، فقيل: الفاتحة، قاله علي بن أبى طالب وأبو هريرة والربيع بن أنس وأبو العالية والحسن وغيرهم، وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجوه ثابتة، من حديث أبى بن كعب وأبى سعيد بن المعلى. وقد تقدم في تفسير الفاتحة. وخرج الترمذي من حديث أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الحمد لله أم القرآن وام الكتاب والسبع المثاني». قال: هذا حديث حسن صحيح. وهذا نص، وقد تقدم في الفاتحة.
وقال الشاعر:
نشدتكم بمنزل القرآن ** أم الكتاب السبع من مثاني

وقال ابن عباس: هي السبع الطول: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال والتوبة معا، إذ ليس بينهما التسمية. روى النسائي حدثنا علي بن حجر أخبرنا شريك عن أبى إسحاق عن سعيد بن جبير. عن ابن عباس في قوله عز وجل: {سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي} قال: السبع الطول: وسميت مثاني لان العبر والأحكام والحدود ثنيت فيها. وأنكر قوم هذا وقالوا: أنزلت هذه الآية بمكة، ولم ينزل من الطول شيء إذ ذاك. وأجيب بأن الله تعالى أنزل القرآن إلى السماء الدنيا ثم أنزله منها نجوما: فما أنزله إلى السماء الدنيا فكأنما أتاه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن لم ينزل عليه بعد. وممن قال إنها السبع الطول: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد.
وقال جرير:
جزى الله الفرزدق حين يمسي ** مضيعا للمفصل والمثاني

وقيل: المثاني القرآن كله، قال الله تعالى: {كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ}. هذا قول الضحاك وطاوس وأبو مالك، وقاله ابن عباس. وقيل له: مثاني، لان الانباء والقصص ثنيت فيه. وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فقد كان نورا ساطعا يهتدى به ** يخص بتنزيل المثاني المعظم

أي القرآن.
وقيل: المراد بالسبع المثاني أقسام القرآن من الامر والنهى والتبشير والإنذار وضرب الأمثال وتعديد نعم وأنباء قرون، قال زياد بن أبى مريم. والصحيح الأول لأنه نص. وقد قدمنا في الفاتحة أنه ليس في تسميتها بالمثاني ما يمنع من تسمية غيرها بذلك، إلا أنه إذا ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثبت عنه نص في شيء لا يحتمل التأويل كان الوقوف عنده. قوله تعالى: {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} فيه إضمار تقديره: وهو أن الفاتحة القرآن العظيم لاشتمالها على ما يتعلق بأصول الإسلام. وقد تقدم في الفاتحة.
وقيل: الواو مقحمة، التقدير: ولقد آتيناك سبعا من المثاني القرآن العظيم. ومنه قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

وقد تقدم عند قوله: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى}.

.تفسير الآية رقم (88):

{لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} المعنى: قد أغنيتك بالقرآن عما في أيدي الناس، فإنه ليس منا من لم يتغن بالقرآن، أي ليس منا من رأى أنه ليس يغنى بما عنده من القرآن حتى يطمح بصره إلى زخارف الدنيا وعنده معارف المولى. يقال: إنه وافى سبع قوافل من البصرة وأذرعات ليهود قريظة والنضير في يوم واحد، فيها البر والطيب والجوهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله، فأنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي} أي فهي خير لكم من القوافل السبع، فلا تمدن أعينكم إليها. وإلى هذا صار ابن عيينة، وأورد قوله عليه السلام: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» أي من لم يستغن به. وقد تقدم هذا المعنى في أول الكتاب. ومعنى {أَزْواجاً مِنْهُمْ} أي أمثالا في النعم، أي الأغنياء بعضهم أمثال بعض في الغنى، فهم أزواج.
الثانية: هذه الآية تقتضي الزجر عن التشوف إلى متاع الدنيا على الدوام، وإقبال العبد على عبادة مولاه. ومثله {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه} الآية. وليس كذلك، فإنه روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {حبب إلى من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة}. وكان عليه الصلاة والسلام يتشاغل بالنساء، جبلة الآدمية وتشوف الخلقة الإنسانية، ويحافظ على الطيب، ولا تقر له عين إلا في الصلاة لدى مناجاة المولى، ويرى أن مناجاته أحرى من ذلك وأولى. ولم يكن في دين محمد الرهبانية والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية كما كان في دين عيسى، وإنما شرع الله سبحانه حنيفية سمحة خالصة عن الحرج خفيفة على الآدمي، يأخذ من الآدمية بشهواتها ويرجع إلى الله بقلب سليم. وراي الفراء والمخلصون من الفضلاء الانكفاف عن اللذات والخلوص لرب الأرض والسموات اليوم أولى، لما غلب على الدنيا من الحرام، واضطر العبد في المعاش إلى مخالطة من لا تجوز مخالطته ومصانعة من تحرم مصانعته، فكانت القراءة أفضل، والفرار عن الدنيا أصوب للعبد وأعدل، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أتى على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن». قوله تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي ولا تحزن على المشركين إن لم يؤمنوا.
وقيل: المعنى لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا فلك في الآخرة أفضل منه.
وقيل: لا تحزن عليهم إن صاروا إلى العذاب فهم أهل العذاب. {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي ألن جانبك لمن آمن بك وتواضع لهم. وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم قبضه على الفرخ، فجعل ذلك وصفا لتقريب الإنسان أتباعه. ويقال: فلان خافض الجناح، أي وقور ساكن. والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه {واضمم يدك إلى جناحك} وجناح الطائر يده.
وقال الشاعر:
وحسبك فتية لزعيم قوم ** يمد على أخى سقم جناحا

أي تواضعا ولينا.

.تفسير الآيات (89- 90):

{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)}
في الكلام حذف، أي إنى أنا النذير المبين عذابا، فحذف المفعول، إذ كان الإنذار يدل عليه، كما قال في موضع آخر: {أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ}. قيل: الكاف زائدة، أي أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين، كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أنذرتكم مثل ما أنزلنا بالمقتسمين.
وقيل: المعنى كما أنزلنا على المقتسمين، أي من العذاب وكفيناك المستهزئين، فاصدع بما تؤمر وأعرض عن وقيل المشركين الذين بغوا، فإنا كفيناك أولئك الرؤساء الذين كنت تلقى منهم ما تلقى. واختلف في {الْمُقْتَسِمِينَ} على أقوال سبعة: الأول- قال مقاتل والفراء: هم ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا أعقاب مكة وأنقابها وفجاجها يقولون لمن سلكها: لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعى النبوة، فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن. وسموا المقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق، فأماتهم الله شر ميتة، وكانوا نصبوا الوليد بن المغيرة حكما على باب المسجد، فإذا سألوه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: صدق أولئك.
الثاني- قال قتادة: هم قوم من كفار قريش اقتسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعرا، وبعضه سحرا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين.
الثالث- قال ابن عباس: هم أهل الكتاب آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وكذلك قال عكرمة: هم أهل الكتاب، وسموا مقتسمين لأنهم كانوا مستهزئين، فيقول بعضهم: هذه السورة لي وهذه السورة لك. وهو القول الرابع.
الخامس- قال قتادة: قسموا كتابهم ففرقوه وبددوه وحرفوه.
السادس: قال زيد بن أسلم: المراد قوم صالح، تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين، كما قال تعالى: {تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ}.
السابع- قال الأخفش: هم قوم اقتسموا أيمانا تحالفوا عليها.
وقيل: إنهم العاص بن وائل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف ومنبه بن الحجاج، ذكره الماوردي.

.تفسير الآية رقم (91):

{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)}
هذه صفة المقتسمين.
وقيل: هو مبتدأ وخبره {لَنَسْئَلَنَّهُمْ}. وواحد العضين عضة، من عضيت الشيء تعضية أي فرقته، وكل فرقة عضة.
وقال بعضهم: كانت في الأصل عضوة فنقصت الواو، ولذلك جمعت عضين، كما قالوا: عزين في جمع عزة، والأصل عزوه. وكذلك ثبة وثبين. ويرجع المعنى إلى ما ذكرناه في المقتسمين. قال ابن عباس: آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
وقيل: فرقوا أقاويلهم فيه فجعلوه كذبا وسحرا وكهانة وشعرا. عضوته أي فرقته. قال الشاعر- هو رؤبة-:
وليس دين الله بالمعضى

أي بالمفرق. ويقال: نقصانه الهاء وأصله عضهة، لان العضة والعضين في لغة قريش السحر. وهم يقولون للساحر: عاضة وللساحرة عاضهة. قال الشاعر:
أعوذ بربي من النافثا ** ت في عقد العاضه المعضه

وفي الحديث: لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العاضهة والمستعضهة، وفسر: الساحرة والمستسحرة. والمعنى: أكثروا البهت على القرآن ونوعوا الكذب فيه، فقالوا: سحر وأساطير الأولين، وأنه مفترى، إلى غير ذلك. ونظير عضة في النقصان شفة، والأصل شفهة. كما قالوا: سنة، والأصل سنهة، فنقصوا الهاء الأصلية وأثبتت هاء العلامة وهى للتأنيث.
وقيل: هو من العضة وهى النميمة. والعضيهة البهتان، وهو أن يعضه الإنسان ويقول فيه ما ليس فيه. يقال عضهه عضها رماه بالبهتان. وقد أعضهت أي جئت بالبهتان. قال الكسائي: العضة الكذب والبهتان، وجمعها عضون، مثل عزة وعزون، قال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}. ويقال: عضوه أي آمنوا بما أحبوا منه وكفروا بالباقي، فأحب كفرهم إيمانهم. وكان الفراء يذهب إلى أنه مأخوذ من العضاة، وهى شجر الوادي ويخرج كالشوك.